شبه الجزيرة نت | مقالات
سامح عسكر:
نشر الكاتب المصري سامح عسكر مقالاً مطولاً على صفحته في موقع X تويتر سابقاً بعنوان “كلمة في يوم الطوفان”. تناول فيه تطورات الحرب الجارية في فلسطين، مقدماً قراءة بانورامية لأبعاد الصراع ومستقبله في ظل الأحداث الجارية. عسكر دعا إلى الابتعاد عن العواطف والتعصب في تقييم الموقف، مؤكدًا أن الحرب الحالية لا تقتصر على الصراع بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، بل تشمل تحالفات دولية واسعة تدعم إسرائيل، مما يعقّد المشهد بشكل أكبر.
المقال:
هتكلم مع حضراتكم بعيدا عن العواطف والأهواء، وسأحدثكم بكثير من الوقائع والأدلة، الغرض منها بيان طبيعة ومستقبل الحرب بالعموم والقضية الفلسطينية بالخصوص، وسأجمل مقالي في بضعة نقاط متصلة، بأسلوب بانورامي كما هو معتاد..
وقبل البدء أرجو نشر هذا المقال على أوسع نطاق ممكن، في وسائل التواصل والصحف لأهميته في وضع النقاط على الحروف…
أولا: الذين يستعجلون النصر من أي جهة سواء في إسرائيل أو المقاومة (يمتنعون) هذه الحرب طويلة، واستعجال نتائجها نوع من الجهل والتعصب، كذلك الذين يقيسون النصر والهزيمة بالخسائر المادية والبشرية أيضا (يمتنعون) فالحروب هي صراع إرادات، أي إرادة تتفوق وتفرض نفسها على الخصم هي المنتصرة حتى لو كانت أكثر خسائر، والعكس صحيح..
ثانيا: المقاومة الفلسطينية منذ أول يوم لم تحارب إسرائيل وحدها، بل أمريكا ومجموعة السبع وحلف الناتو، شكلت مجموعة السبع غطاءا سياسيا للاحتلال، ودعمته بالسلاح حتى بلغ الدعم العسكري لإسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 أكثر من 100 ألف طن، وهو معدل يماثل 4 أضعاف عملية “عشب النيكل” التي زودت بها أمريكا إسرائيل عام 1973 في حربها ضد مصر وسوريا..
أكثر من 500 سفينة ومئات من رحلات الطيران من الغرب لإسرائيل طوال عام، هي السر في توحش إسرائيل الحالي في #غزة ولبنان
ثالثا: قضية امتلاك السلاح هي الأساس ليس فقط في الحروب، ولكن في فرض الإرادات والتأثير على ملفات الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والدين..إلخ، تخيل روسيا كانت تنتفض إذا علمت بأن حلف الناتو ينقل صواريخه لبولندا، أو أمريكا تصنع صواريخ بمديات أكبر وأوزان أثقل، أو علمت بتصنيع طائرات شبحية لا يمكن للدفاع الجوي الروسي إسقاطها، لعلمها أن تفوق الغرب عسكريا سيؤثر على المجتمع الروسي بالكامل سلبيا..
روسيا صنعت s400 مخصوص ضد الشبحي الأمريكي، وصنعت صواريخ الفرط صوتية مخصوص من أجل التفوق وفرض إرادتها على الغرب، بينما في منطقتنا العربية علمنا جيدا أن إسرائيل ستمتلك طائرات f 35 الشبحية ولم نتحرك، علمنا أنها تصنع صواريخ أريحا البالستية طويلة المدى ولم نتحرك، علمنا أنها تطور دفاع جوي صواريخ آرو والقبة الحديدية ولم نتحرك، هذا السبب الرئيسي في الفوضى الحالية بالشرق الأوسط، أن قرار الحرب وامتلاك القوة في يد (جهة واحدة) ويفسر ذلك الصمت المخزي أمام جريمة الإبادة التي تحدث لشعبين عربيين..
رابعا: طوفان الأقصى لا يمكن فهمه وفقا للحيز الجغرافي لفلسطين، فمنذ أول يوم قلنا أنه سيؤدي لحرب طويلة وواسعة خارج فلسطين إذا لم يتوقف إطلاق النار، والعهدة في ذلك أن دلاته الدينية في اختيار الإسم، هي المعادل العقائدي للدلالة الدينية في اختيار الإسم الصهيوني للأٌقصى وهو “هيكل سليمان” فالذي يعيب على الطوفان لفظه الديني، من الأولى أن يعيب أيضا على إسرائيل لفظها الديني، هذا الطوفان مجرد رد فعل ديني إسلامي على تطرف صهيوني..
خامسا: من كان يصدق أن إيران تضرب إسرائيل مرتين إحداها تدمير 3 مطارات جزئيا، والقضاء على جزء مهم من سلاح الجو الصهيوني الذي كان يعربد ليل نهار قبل 1 أكتوبر، ومن كان يصدق أن اليمن والعراق يقصفون تل أبيب بشكل يومي؟..
ومن كان يصدق أن إسرائيل تعيش منذ عام أطول فترة طوارئ في تاريخها، حيث انتقلت المعركة لأول مرة منذ إنشاءها إلى أرضها ومدنها ومستوطناتها..هذه من نتائج الطوفان التي لم تنتهي، وعلى ما يبدو أنه لا زال يحمل كثير من المفاجآت..
سادسا: الغرب مثلما خدع روسيا مرتين، الأولى :باتفاقية مينسك الأولى والثانية الخاصة بتسوية الملف الأوكراني عامي 2014و 2015، والثانية: باتفاقية اسطنبول عام 2022 الخاصة بعدم غزو كييف،
خدع أيضا إيران مرتين، الأولى: حين أوهم الإيرانيين أن إسرائيل لن تتجرأ على السيادة الإيرانية مرة أخرى بعد اغتيال الجنرال “رضا زاهدي” في إبريل 2024 إذا لم ترد إيران، أو ترد بشكل سطحي ومنسق، استجابت إيران جزئيا وأطلقت هجوما على إسرائيل مع تنسيق مسبق لإخلاء الأهداف قبلها بفترة زمنية ممكنة، وأعلن الحرس الثوري إطلاق طائرات مسيرة ستصل لإسرائيل خلال 9 ساعات، وهو ما يعني الالتزام بالاتفاق مع الولايات المتحدة التي طلبت ذلك خشية التصعيد..
لكن إسرائيل انتهكت السيادة الإيرانية مرة أخرى، وقتلت اسماعيل هنية في قلب طهران، بالتالي صار الانتقام واجبا بشكل أقسى وبدون تنسيق، هنا تدخلت الولايات المتحدة والغرب للضغط على إيران بعدم الرد، بدعوى (إطلاق مفاوضات الهدنة) وبلعت إيران الطُعم عن طريق رئيسها الإصلاحي الضعيف، وقررت إيران عدم الرد حتى بعد انهيار مفاوضات الهدنة، وإنها لم تكن هدنة بل خداع استراتيجي أمريكي للإمساك بزمام المبادرة، والتفوق على إيران بوضعها في موضع المدافع، وتصويرها بصورة المذنب والمعتدي إذا هاجمت إسرائيل في سياق مختلف بعد تقادم الزمن..
ولولا اغتيال نصر الله والهجوم على لبنان ما فكرت إيران في الرد، فالحرس الثوري تدخل فورا، وباتفاق مع المرشد تم دفع السلطة التنفيذية للرد..فاغتيال نصر الله وقرار غزو لبنان يمثل خطرا وشيكا على محور المقاومة ككل، وبالتالي فشل عقود من التجهيز الإيراني لهذا المحور بكافة صنوف الدعم المادي والعسكري والدعائي.
سابعا: العقلية الغربية هي استعمارية بالأساس، تملك كل مقومات عصر التنوير الأوروبي بالنظر إلى الدين كشئ قديم، وإلى التاريخ كمعلومات خطيرة لا يجب تدريسها أو علمها أو وضعها في الحسبان، وتفضل التفكير (بما هو موجود) ومُشاهد في الحس البصري،
لذلك فالقائد الغربي سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة ينظر بغطرسة وعنجهية إلى مقاتلي محور المقاومة ضد إسرائيل ككل (لأنهم عرب ومسلمين) ويراهم أشخاصا عتيقين ومتخلفين وخطرين (مثلما هي صورة العربي في المُخيلة الغربية) ولأنهم يتحركون بناء على الدين والتاريخ بشكل أساسي.
ولأن الصهيونية الإنجيلية نافذة في دوائر الحكم الغربية، نجحت في التعمية على نفس السلوك الإسرائيلي بالاعتماد على الدين والتاريخ في الحرب، وركزت الدعاية الغربية بشكل عام في وصف خصوم إسرائيل بالمتطرفين دينيا، لكنها امتنعت عن وصف نتنياهو وجالانت وبن غفير بنفس الوصف برغم استدعاءهم لنصوص دينية من التوراة،
والفضل في ذلك يعود للصهيونية الإنجيلية النافذة من جانب، وإلى اللوبي اليهودي “إيباك” من جانب، وكلاهما مختلفين بالمناسبة، فالصهيونية الإنجيلية الغربية هي الحاضنة الشعبية والإدارية والتنفيذية لإيباك، لكن أكثرهم ليسوا أعضاءا في إيباك، وبعضهم ينتقد جرائم إسرائيل أحيانا لكن إيباك لا..
ثامنا: العقلية الغربية الاستعمارية لا تفضل المناقشة أو السعي لفهم الخصوم، هذه أشياء خارج قدراتهم، فهم لا يعتمدون على مراكز الاستشراق أو الدراسات الشرقية في فهم العرب والمسلمين، بل يفضلون بدلا من ذلك استعمال لغة (التهديد والابتزاز) منعا للإزعاج، وأبرز نموذج لذلك (قصة العقوبات) فهي صادرة من عقل متغطرس يعتقد بتفوقه الذاتي، وأن الآخر جنس أدنى أكثر تخلفا لا يمثل أي جهد لفهمه ومناقشته أي مصلحة…
كنت أتحدث مع بعض أصدقائي المثقفين في تلك الجزئية، وكان البعض منهم يعتقد بأن الاستشراق الأوروبي فضيلة مجتمعية وثقافية وسياسية، قلت: هو مجتمعية ثقافية نعم، لكن ليس له أي دور في السياسة،
وقادة الغرب طوال قرنين لم يعتمدوا على تلك المراكز الاستشراقية في الحوار مع الأمم المُستعمَرة، بل كانوا يفضلون التعامل مع ضحاياهم بمنطق القوة النافذة، السادة والعبيد، القائد والمقود، الرئيس والشعب، نحن الحكام لأننا الأفضل، وما على هؤلاء سوى السمع والطاعة، هذه كانت عقلية نابليون وسائر زعماء الغرب الاستعماريين الذين غزوا بلادنا ، آخرهم إسرائيل..
تاسعا: فكرة الرقابة العسكرية الصهيونية أكبر من كونها رقابة لها وظيفة شئون معنوية، هذا سلاح استراتيجي فعال للغاية، يقوم على نفوذ وانتشار الآلة الدعائية الغربية وفي مقدمتها إعلام دول (فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة)
وهو الإعلام الذي يُخدّم على تلك الرقابة، ويعطيها مصداقية، ونظرا لعلاقة هذه الدول ببعض الدول العربية الغنية ذات النفوذ الدعائي، صارت قنواتهم وصحفهم مجرد (ميكروفون) للدعاية الغربية، التي هي بالأساس دعاية الرقابة الإسرائيلية..
ماذا يعني ذلك؟
في الأساس والذي دفع إسرائيل لهذا التوحش هي تلك الرقابة، لأن فحواها (عدم نقل الواقع) ولأن الواقع يشهد تناميا وصعودا لقوى عسكرية في الشرق الأوسط منذ سنوات، فاصطدمت إسرائيل أخيرا بتلك القوى نتيجة لإنكار هذا النفوذ، واحتقار هذا الصعود،
نفس العقيدة التي هيمنت على الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية، الذي نجح في الدعاية بتصوير قوة جيشه وضعف خصومه، لكنه أخيرا اصطدم بالواقع، وتم إفناء جيشه على أيدي الروس وقوات الحلفاء..
لا أقول بضرورة إلغاء الرقابة ، ولكن فهم دورها العسكري في إطار ميداني فقط، وليس في إطار اجتماعي وسياسي، وهذا يتطلب قرارات منها عدم دخول حرب طويلة، لأن الرقابة وقتها تعني توسيع هذه الحرب باستفزاز دائم للخصم، واستعداء أصدقائه والمتعاطفين معه، والاصطدام بوقائع على الأرض ينكرها الإسرائيليون، مما يعني أن الرقابة تصلح فقط لأسلوب الحرب الخاطفة والسريعة، أو الحروب القصيرة التي تشهد تفوقا عسكريا كاسحا واستسلام تام من الخصم.
وأذكر حضراتكم أن الذي تسبب في الضربة العسكرية الإيرانية الثانية لإسرائيل، هي الرقابة الصهيونية التي منعت فهم رسائل الضربة الأولى، وانعزلت عن الواقع الذي يشهد بقوة إيران وتطورها العسكري والتقني الهائل، والإصرار على النظر للإيرانيين بنفس صورة العربي، وهي صورة “المتخلف القديم الضعف الجاهل” الذي لا يصلح معه سوى الابتزاز والتهديد والعقوبات، وأن الحوار معه مضيعة وقت،
ولا زالت هذه العقيدة لدى إدارة بايدن، ومستشرية للغاية في إدارة نتنياهو، لكنها لم تكن كذلك في إدارة أوباما التي توصف بأنها أفضل من فهم وناقش الإيرانيين، وعمل على الحد من خطرهم على المجتمعين الغربي وإسرائيل.
عاشرا: تقوم سياسة الولايات المتحدة في السيطرة على بعض المفاهيم هي:
1- التحكم في السرد: بمعنى السيطرة على أي أصوات معارضة، ومنعها من التحكم بالرأي العام الدولي، أو تسويق رؤيتها، وهي دائما تصف الأصوات المعارضة (بالشعبوية والفوضوية) وهذين اللفظين لا يخرجوا من نفس طبيعية، بل من نفس متسلطة ترى الخروج عن أمرها فوضى، واعتراضها ونقدها شعبوية، تأملوا دلالات الألفاظ..
ومن ضمن وسائل الولايات المتحدة في التحكم بالسرد هي (الدعاية والإعلام) فعن طريقهم يجري تسويق قوة أمريكا وأنه لا غنى عنها، وأنها الأولى، والأقدر على قيادة العالم
تذكروا ما قلته منذ شهور وأردده بشكل مستمر، أن الولايات المتحدة أنشأت خصيصا بعض المواقع والصحف المتصلة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية أشهرهم (موقع إكسيوس) وزرعت العديد من عملائها الأمنيين في صحف كبرى كالنيويورك تايمز والتليجراف البريطانية، وذلك بهدف سد الثغرات الناجمة عن مشاحنات cnn مع fox مثلا بسبب التنافس الجمهوري الديمقراطي، ولكي تحقق هذه المنابر مصلحة أمريكا في السيطرة دون أن تتحمل تبعات أخطاءها،
فالقانون هناك لا يسمح بملكية الدولة لصحف، لكنه في ذات الوقت لا يمنع تغول ونفوذ الجهات في هذه الصحف والإعلام بشكل عام.
2- ضبط الواقع غير المستقر الناجم عن سيطرة ونفوذ زعماء الخصوم، فأي زعيم يظهر معارض للولايات المتحدة يصبح بمقدوره صنع وقيادة جهاز دعائي قوي ضد مصالح أمريكا، فلا تسمح الولايات المتحدة بصعود هؤلاء الزعماء دون حملات دعائية وسياسية – وأحيانا عسكرية – في المقابل لضبط هذا الواقع وفقا لرغبة ومصالح أمريكا..
نصر الله مثلا هذا زعيم قوي لديه كاريزما وقبول ولغة وانضباط يتجاوز حاجز الدين، وشعبيته خارج الشيعة بين المسيحيين والسنة أضعاف أضعاف ما يوجد عند أنصاره من معتنقي المذهب الإثنى عشري، فيجب تنظيم حملات دعائية وسياسية قوية للغاية ضده بغرض إضعافه،
وبالفعل أنفقت الولايات المتحدة ملايين الدولارات لهذا الغرض، واستعملت سلاح الدين والفتنة الطائفية – إضافة لاستغلال أخطاء نصر الله نفسه والمبالغة في تضخيمها- وللأسف كان التيار السلفي مشاركا في هذه الحملة الدعائية دون علمه، وبدأوا في شيطنة وتكفير الرجل بين مجتمع السنة حتى انهارت شعبيته التي ربحها بعد عام 2006
فعلت الولايات المتحدة نفس الشئ مع زعماء مثل عبدالناصر قديما، حيث عمدت على تصويره بمنتهى القبح، وأرسلت لتوظيف الآلة الدعائية الدينية لتكفيره على منابر المملكة السعودية، وفعلوا نفس الشئ مع بوتين،
وبالطبع فعلوا مع صدام حسين، فبعد ما كان صديقا وحليفا ظهرت فتاوى كفره وإلحاده فور مخالفة أمريكا والاعتداء على الكويت، مما يسلط الضوء على قصة توظيف الدين في السياسة عند الغرب، وهي قضية لا زالت محل جدل بين المثقفين، فالواقع يقول أنه وبرغم علمانية دول الغرب لكن الولايات المتحدة تشتهر بهذا السلوك، وهو توظيف الدين والمقدسات في القضاء وإضعاف المنافسين
فقط عن طريق الدعاية والتحكم في السرد، وعدم السماح للآلة الإعلامية المعارضة في الصعود والمنافسة..وهذه قضية أخرى خاصة (بتدجين إيلون ماسك) والسيطرة عليه، وهي قضية ربما نتعرض لها في مواضع أخرى..